Sunday, August 11, 2013

كانتور و كوهن: محققي اللانهايه- الجزء الثاني

فرضية الإستمرارية

بقلم: ريتشار إلوس
ترجمه: زهره آل ناصر

كانتور: صانع لعبة اللانهاية

 كان جورج كانتورGeorg Cantor منطقي ألماني الذي- في نهاية القرن 19- حقق الإنجاز الذي حلم به العلماء و الفلاسفة و المتكلمين و هو التحليل المفصل للانهاية. بالنسبه لكانتور شخصياً, كانت نتائج هذا النصر غير سعيدة. مع عدم قدرته على حل أحد الأسئلة التي فتحها عمله – المعروف بفرضية الإستمرارية- أصبح كانتور موسوس و بائس مع فشله . بالإضافه إلى مأساته الشخصية- موت إبنه- و الإهانة العلنية من رفض عمله و وصفه بأنه: " مائة عام قريبة جداً" , قضى كانتور آخر سنوات عمره في الدخول و الخروج من المصحات.

جورج كانتور
كان إكتشاف كانتور بأنه ليس هناك لانهاية واحدة فقط, لكن تسلسل لاينتهي أبداً منها و كل نهاية أكبر من السابقة. إنها فكرة ملتوية ولكن كان المدخل إلى عالمه الغريب – للمفاجأة- مفهوم سهل و مألوف.

إفترض أن لديك مجموعتين من الأشياء, سمهما المجموعة A والمجموعة B كيف يمكنك أن تعرف أيهما أكبر او أنهما من نفس الحجم؟ طبعاً يمكنك عد جميع الأشياء في A ثم عد جميع الأشياء فيB و مقارنة العددين. لكن يمكن أن يكون من الأسهل – لتجنب خطر فقدان العد- محاولة مطابقة عناصر المجموعتين: إربط كل عنصر من A مع عنصر من Bإلى أن تنتهي عناصر إحدى المجموعتين. المجموعات التي يمكن مطابقة جميع عناصرها كلياُ فهي من نفس الحجم و المجموعات التي لايمكن مطابقة جميع عناصرها فهي مختلفة الحجم . هذه الفكرة يمكن بصعوبة تبسيطها لكن في يدي كانتور أنتجت إكتشافاً مذهلاً: لقد أثبت أن بعض المجموعات اللانهائية لايمكن مطابقتها مع أي مجموعة أخرى لذلك يجب علينا على الفور أن نستنتج أن هناك مستويات مختلفة من اللانهاية و بعضها أكبر من الأخرى.

طبق كانتور طريقته على بعض الكائنات الرياضية المعروفة. على سبيل المثال الأعداد الطبيعية وهي مجرد تعداد للأرقام العادية 4،3،2،1،0 ........ قد يبدو من الواضح أن مجموعة الأعداد الزوجية { 8،6،4،2،0 .........} يجب أن تكون أصغر من مجموعة الأعداد الطبيعية، فبعد كل شئ أليست هي سوى نصفها؟ لكن للغرابة، يمكن بسهولة مطابقة المجموعتين: 0 إلى 0، 1 إلى 2، 2 إلى 4 ، 3 إلى 6 ، ...... وهكذا فقط بالضرب في 2 كل مرة. لذلك علينا أن نستنتج أن المجموعتين ، في مفهوم كانتور، هما في الواقع من نفس الحجم.

مجموعة الأعداد الحقيقية هي كائن آخر أساسي، و الذي يمكن التفكير فيه على أنه تجمع لكل المفكوكات العشرية اللانهائية (مثل 19.000000000... أو 1.234567891011121314151617181920 ....) يمكنك أن تفكر في الأعداد الحقيقية على أنها نقاط على خط طويل من دون ثقوب فيه. لهذا السبب فإن مجموعة الأعداد الحقيقية تسمى أحياناً المستمرة The continuum . أثبت كانتور أن أي محاولة لمطابقة الأعداد الحقيقية مع الأعداد الطبيعية سوف تفشل: سيكون هناك دائماً بعض الأرقام الحقيقية التي سوف تُغفل. بالتالي فنحن مضطرون إلى إستنتاج أن لانهايئة الأعداد الحقيقية أكبر من لانهايئة الأعداد الطبيعية.

و هنا سؤال: هل هناك لانهاية بين لانهايئة الأعداد الطبيعية و لانهايئة الأعداد الحقيقية ؟ و بكلام آخر، إذا أخذت أي تجمع من الأعداد الحقيقية ، فهل صحيح أنه يمكن مطابقتها إما مع الأعداد الطبيعية أو مع كل الأعداد الحقيقية ؟ أو أن هناك حجم وسط ممكن؟ فرضيه الإستمرارية The Continuum hypothesis هي العبارة أنه ليس هناك حجم وسطي. كان هذا السؤال هو الذي جلب لكانتور الكثير من الإحباط و البؤس. ويمكننا الخوض في تفاصيل أكثر بإستخدام نظام كانتور للأعداد اللانهائية. 

الأعداد الطبيعية و الإستمراريه-هل هناك لانهايه بينهما؟


أهمية الأعداد الأساسية

يمكنك عد الأعداد الطبيعية و حتى الكسور لكن النقاط على طول الخط المستقيم تمثل مجموعه غير معدودة
بنى كانتور نظامه من أعداد خاصة تسمى الأعداد الأساسية Cardinal numbers ، و التي تقيس الأحجام المختلفة الممكنة للمجموعات. الخاصية المهمة لها هي أن كل مجموعة واحدة يمكن مطابقتها مع عدد أساسي واحد بالضبط. الأعداد الأساسية المنتهية ليست سوى الأعداد الطبيعية : 5،4،3،2،1،0، ......... و هي تقابل المجموعات المنتهية من نفس الحجم: مجموعة ذو عنصر واحد لها العدد الأساسي 1، مجموعة ذو عنصرين لها العدد الأساسي 2، وهكذا. لكن هناك أعداد أساسية غير منتهية أيضاً، عدد لانهائي منهم. إكتشف كانتور كيفيه توسيع العمليات الأساسية، مثل الجمع و الضرب على هذه الأعداد اللانهائية.

العدد الأساسي اللانهائي الأول هو   ( وهي " ألِف نوت" حيث  هو الحرف الأول من الحروف الهبرية).  هو حجم الأعداد الطبيعية. و بالتالي تكون مجموعة من الحجم  إذا كان يمكن مطابقة عناصرها مع الأعداد الطبيعية: و هذا يعني إذا كنت تستطيع عدّهم. و لهذا السبب المجموعات ذات العدد الأساسي  تسمى معدودة. العدد الأساسي التالي هو  : العدد الأساسي الأول للمجموعات غير القابلة للعدّ.

ثم هنالك 
و هكذا ( وهذا فقط للمبتدئين). لايوجد هناك العدد الأساسي الأكبر: و لكن العدد الأساسي الكبير جداً هو - يمكنك دائماً التحدث عن العدد الأساسي التالي- الذي يكون هو أصغر عدد أكبر من العدد الذي لديك مسبقاً.

و لكن هذه ليست الطريقة الوحيدة للحصول على عدد أساسي أكبر من العدد الذي لديك مسبقاً. إذا كان لديك مجموعة 
، يمكنك تكوين مجموعة أكبر تسمى مجموعة المجموعات. المجموعة  هي تجمع كل المجموعات الجزئية من . وهكذا على سبيل المثال إذا كانت  مجموعه مكونة من ثلاثة عناصر  فإن  هي:



حيث 
هي المجموعة الخالية: المجموعة التي لايوجد بها عناصر. إذا كانت مجموعة الأعداد الطبيعية من 1 إلى 100 فإن  هي مجموعة الأعداد بين 1و 100 :   و مجموعة الأعداد الأولية  و مجموعة الأعداد الفردية و المجموعة الخالية و كل مجموعة يمكن تكوينها من الأعداد الطبيعية . إذا فعلت ذلك مع مجموعة منتهية ( المجموعة في الأعلى  لها ثلاث عناصر)، فإن عدد العناصر في هو 2 مرفوع للقوة حجم المجموعة  ( في هذه الحالة  ) . أثبت كانتور أنه للمجموعات الغير منتهية أيضاً فإن مجموعة المجموعات دائماً أكبر من المجموعة الأصلية  : لايمكن مطابقتهما معاً. إذا كانت المجموعة لها العدد الأساسي A ، فإننا نقول أن  لها العدد الأساسي  . و هكذا فإن العدد الأساسي هو حجم مجموعة مجموعات الأعداد الطبيعية وله أهمية خاصة. العديد من المجموعات المهمة ، بما في ذلك مجموعة الأعداد الحقيقية، لها العدد الأساسي  و لهذا السبب تسمى  بالإستمرارية. و الآن يمكننا إعاده صياغة فرضية الإستمرارية : إنها التأكيد أن

إذا كانت فرضية الإستمرارية صحيحة فإنه لايوجد عدد أساسي بين
و . و هكذا أي تجمع لانهائي من الأعداد الحقيقية يجب أن يكون له إما العدد الأساسي  أو  . و ليس هناك عدد بينهما. لكن إذا كانت فرضية الإستمرارية خاطئة فإن  تقع بين  و  . و بالتالي يجب أن يكون هناك تجمع لانهائي من الأعداد الحقيقية التي لها العدد الأساسي  : كبيرة جداً ليتم مطابقتها مع الأعداد الطبيعية و صغيرة جداً لتكون مطابقة مع كل الأعداد الحقيقية.

إعتقد كانتور أن فرضية الإستمرارية كانت صحيحة، و أمضى سنوات عدّة في محاولة إثباتها حتى وفاته في العام 1918 م. في العام 1900 م، أعلن الرياضي المؤثر ديفيد هلبرتDavid Hilbert 24 سؤال رياضي للقرن الجديد و التي تحدد مسار الرياضيات لـ 100 عام القادمة. كان هلبرت متحمس بالنسبه لنظرية المجموعات و التي تسمى " جنّة كانتور" . و قد وضع فرضية الإستمرارية على أنها المشكله الأولى في قائمته. 

باول كوهن: قهر الإستمرارية

باول كوهن
  إن قصة فرضية الإستمرارية تشبه كثيراً مسلمة الإختيار التي عالجناها في مقالة أخرى . حاول الرياضيون في بدايه القرن العشرين بإبتكار نظام المسلمات الذي من شأنه أن يخدم كأساس لجميع الرياضيات. كان الغرض من العمل من المسلمات هو لجعل الرياضيات دقيقه جداً بحيث تكون وثبات الإيمان و نفحات الإلهام التي تشكل بطبيعه الحال جزءاً من عمل كل رياضي يمكن إثباتها بشكل كامل من هذه القوانين الأساسية. و كان الإفتراض أنه ينبغي أن يكون من الممكن إستنتاج كل حقيقه رياضية من هذه المسلمات الرياضية بإستخدام قواعد المنطق فقط.
قدّم عمل الرياضي إرنست زرملو Ernst Zermelo في أوائل القرن العشرين الأساس لمثل هذا النظام المسلماتي مبني على نظرية المجموعات. هذا النظام يعرف الآن بـ ZFC ( نسبه إلى زرملو , Zermeloأبراهام فرانكلAbraham Fraenkel و الإختيار Choice ). و هذا الإصدار من نظرية المجموعات مازال يدعم تقريباً جميع الرياضيات اليوم: كل الأعداد و تقريباً كل المواضيع الرياضية يمكن بسهولة بناؤها داخل عالم مجموعات نظري مبني على ZFC .
إعتقد الرياضيون في ذلك الوقت أن فرضية الإستمرارية يمكن أيضاً أن تجد مكانها في هذا العالم: لقد حاولوا إثباتها من مسلمات ZFC. لكنهم فشلوا. كان التقدم الحقيقي الأول في العام 1940م بواسطه الرياضي كورت غودل Kurt Godelالذي أثبت أن فرضية الإستمرارية لا تقدم أي تناقضات في نظام ZFC . طبعاً هذه الطريقة تثبت أنها في الحقيقة صحيحة.
كان إنتصار باول كوهن Paul Cohen بإبتكار الجبر forcing . تقنية قوية لبناء عوالم جديدة من المجموعات التي تحقق ZFC و لكن التي من الممكن تكييفها لتحقق شروط إضافية أيضاً. في العام 1963م ، حوّل كوهن تقنيته الرائدة نحو فرضية الإستمرارية. لقد بنى عالم مجموعات نظري يحقق ZFC لكن تكون فيه فرضية الإستمرارية خاطئة. و بالعمل مع كارت غودل، أثبت أن فرضية الإستمرارية مستقلة عن نظام ZFC. من المستحيل الإستنتاج من القواعد العادية للرياضيات كما نفهمهم إذا ماكانت فرضية الإستمرارية صحيحة أو لا. كانت هذه النتيجة الرائعة التي من أجلها في العام 1966 م فاز كوهن بميدالية فيلدز Fields Medal( أي مايعادل جائزة نوبل في الرياضيات ) و نحن حصلنا في العام 1967م على الميدالية الوطنية للعلوم من قبل رئيس الولايات المتحدة جونسون. 

  الإستمرارية: و يستمر الجدل

بفضل عمل كوهن فنحن نعلم أننا لايمكن أن نأمل في حل فرضية الإستمرارية بطريقة أو بأخرى من ZFC. لكن مجموعة المسلمات النظرية لا توجد من فراغ: تم إختيارها لتعكس حدسنا عن كيف ينبغي أن تعمل المجموعات. إذن حتى لو أننا لانستطيع إثباتها مازلنا نستطيع أن نسأل إذا كانت فرضية الإستمرارية الإفتراض الطبيعي الذي ينسجم مع أفكارنا الفطرية حول المجموعات.
  جادل رياضي نظريه المجموعات Hugh Woodin في حالة إعتبار أن فرضية الإستمرارية خاطئة أن  هو إفتراض أكثر طبيعية. و قد جادل أشخاص آخرون للحصول على قيم أكبر للإستمرارية. كتب كوهن نفسه أنه يعتقد أن يجب أن تكون أكبر من و حتى أكبر من 
  إلى اللانهاية و أكبر، أكبر كثيراً
  كان ديفيد هلبرت هو الذي قال :" لايجوز لأحد أن يطردنا من الجنة التي خلّفها لنا كانتور" . و بعد أكثر من مئة سنة من ولادته، لاتزال الأبحاث في نظرية المجموعات قوية. فرضية الإستمرارية هي فقط الأولى في سلسلة من مسلمات الأعداد الأساسية الكثيرة التي تتعامل مع الأعداد الأساسية و التي لايمكن تخيلها أكبر من  . عادة لاتوجد طريقة لكتابة هذه الأعداد الأساسية، و وجودها عادة مايكون مستقلاً عن ZFC. إنه من الرائع أن مثل هذه المواضيع من نظرية المجموعات يمكن أن يكون لها نتائج في الأسفل على الأرض، بين الأعداد الطبيعية. سوف يتذكر باول كوهن ليس فقط لإنجازاته الحاسمة لفرضية الإستمرارية و مسلمة الإختيار: التقنية التي إبتكرها –الجبر – لاتزال حتى اليوم طريقة قياسية لبناء عوالم جديدة من نظرية المجموعات و و تلقي الضوء على الروافد العليا لجنة كانتور.

مصدر المقاله: مجله بلس للرياضيات 
 http://plus.maths.org/content/cantor-and-cohen-infinite-investigators-part-ii